يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله في هذا: (أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح، فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم)، كالميزان والصراط وعذاب القبر ونعيمه وأشراط الساعة، وسائر المغيبات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم. فقول القلب هو الإقرار بها والتصديق الجازم بها؛ لأن بعض العقائد هي عقائد علمية، ولهذا يقال: اعتقادية أو علمية أو خبرية، بمعنى أنه لا يترتب عليها عمل، فالمكلف نقول له: يجب عليك أن تؤمن بأنه في آخر الزمان سوف ينزل عيسى عليه السلام، ولا نطلب منك عملاً تعمله، وإنما نطلب منك الإقرار والتصديق الجازم، بحيث تقول: ما دام أنه قد جاء الوحي بذلك فأنا مؤمن به ولا أكذب به، وفي هذه الحالة تكون قد أتيت بالإيمان المطلوب؛ لأن المطلوب منك هو أن تقر وأن توقن بذلك. فإن قيل لك: إن الله افترض عليك الجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، فهنا يجب عليك أن تقول: أنا مقر بذلك ويلزمك العمل؛ لأن ذلك من عمل الجوارح. فـ
شيخ الإسلام يريد أن يوضح أن قول القلب هو التصديق الجازم، فما كان من أمور علمية اعتقادية فحسبك أن تأتي به اعتقاداً، وما كان من أمور عملية فلا بد من أن تأتي به اعتقاداً وزيادة على ذلك تأتي بالعمل، فتنفذه وتمتثله. قال رحمه الله تعالى: (ثم الناس في هذا على أقسام) وهذا التقسيم مهم جداً إذا قلنا: إن الدين قول وعمل، فهل كل المؤمنين الذي يقولون هذا هم في درجة واحدة في الإتيان به؟! يقول: (منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل) وهذا أحد أسباب التفاضل بين المنتسبين إلى الإيمان، فبعضهم آمن وصدق جملة ولم يعرف التفصيل، وهذا حال كثير من العوام المسلمين اليوم، يقول المرء منهم: أنا مؤمن بكل ما أخبر الله به، وأنا مؤمن بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو سمع حديثاً، أو حضر خطبة فسمع الخطيب يقول: قال الله أو قال رسول الله، وجاء بشيء جديد آمن به بناءً على القاعدة الإجمالية التي قد أقر بها من قبل. القسم الثاني: (من صدق جملة وتفصيلاً)، يعني: عرف كل ذلك فآمن به إيماناً كلياً إجمالياً، وإيماناً تفصيلياً، وهذا القسم قليل، وهم الراسخون في العلم، وبينهم درجات متفاوتة. قال: (ثم منهم من يدوم استحضاره لهذا التصديق) وهذا وجه من أوجه التفاوت، فبعض العوام عنده الإيمان المجمل، لكنه دائم الاستحضار له، فهو يذكر الله دائماً ويسبح ويطيع، فهذا الإيمان المجمل موجود وحي في قلبه، وهناك من يغفل وينقطع ويضعف ويفتر إيمانه المجمل. وكذلك الإيمان المفصل، فبعض الناس يبلغ به الإيمان إلى حالات عالية عظيمة جداً، وأحياناً يضعف أو ينقطع بعض ذلك. قال: (ومنهم من يذهل أو يغفل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة أو تقليد جازم). يعني أن منهم أيضاً من يجزم بدليل، لكن الدليل قد تعترض عليه شبهة، أو أنه قلد تقليداً جازماً، وهذا رد منه على من يقول: إن الإيمان لا بد من أن يكون عن نظر عقلي. فلو قرأت في بعض كتب علم الكلام، وبعض كتب
الأشاعرة حتى المعاصرين تجد فيها أن منهم من يقول: لا بد من أن ينظر العامي ولو مرة واحدة، ويقول: إن النظر واجب على المكلف ولو مرة واحدة في العمر، فيقول: هذا العالم محدث، وكل محدث لا بد له من مُحدِث، والمحدث هو الله، إذاً آمنت! يقولون: وإن لم يفعل كان إيمانه مجرد تقليد. ونقول: لا، بل التقليد الجازم قد يكون سبباً من أسباب الإيمان، وهو في حقيقته اتباع، فلو أن رجلاً أخذ بعض ما جاء عن بعض الصحابة أو التابعين على اعتقاد ويقين ثقة منه واتباعاً لأنه يعلم أن هذا متبع لما جاء من عند الله لا يكون مقلداً؛ لأنه عرف أنه لم يأخذ إلا ممن أخذ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما إذا أخذ ذلك عن الصحابة أو التابعين؛ لعلمه أن التابعين أخذوا عن الصحابة، فهذا ليس تقليداً، وإنما هو في الحقيقة اتباع، وهذا الاتباع موافق للفطرة وللعقل، فلا يقال: إنه لا نظر فيه ولا تفكر ولا استدلال؛ لأن الناس قد تستدل بهذه الطريقة التي ذكرتم وقد لا تحتاج إليها، فبعض الناس لا يحتاج إلى أن يقال له: هل فكرت وهل استدللت؟ فالأعرابي قال: (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير)، فهذا لا يحتاج إلى تفكير، ولا يحتاج إلى أن يقول: إني وجدت بعرة، فلا بد من أن بعيراً قد مشى! فهو يعلم أن بعيراً قد سار بالبداهة والفطرة، وفطرة العرب هي أقوى وأصح في الاستدلال بدون مقدمات ونتائج على الطريقة المنطقة اليونانية الفلسفية، فقد كانوا يستطيعون أن يصلوا إلى الحقائق بأفضل السبل والبداهة والذكاء المتوقد الحاضر، ولذا كان أذكى الناس وأفهم الناس وأعقل الناس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.